ترامب- عودة الاستثناء الأمريكي وتعميق جراح فلسطين؟

عند تقييم الأحداث الجارية، يمكن القول دون مبالغة إن دونالد ترامب قد حقق نصرًا حقيقيًا في نهاية حقبة الاستثناء الأميركي، الذي تضاءل بشكل ملحوظ في القضية الفلسطينية. لقد تجسدت أميركا في صورة الراعية للإبادة الجماعية والسفيرة للموت، وهو ما برز خلال فترة حكم الرئيس جو بايدن، الذي بدت إدارته مترددة ومتورطة ومخادعة، مما أدى إلى فقدانها للثقة والاحترام على الساحة الدولية بشكل غير مسبوق.
على الرغم من أن اختيار الشعب الأميركي يستحق الاحترام الكامل، إلا أن سوء حظنا قاد هذا الاختيار في هذا العصر الحساس إلى تفاقم جروحنا وتلويثها. فالدعم الأميركي المتزايد وتبنيها لطموحات الحركة الصهيونية فتحا الباب على مصراعيه أمام أهوال لا تعد ولا تحصى في العالم العربي، وما يحدث في غزة ليس سوى مقدمة مروعة.
كان من المتوقع أن تفقد الحكومة الإسرائيلية اتزانها بعد صدمة الهزيمة التي لحقت بها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، لكن ما حدث بعد ذلك مباشرة هو أن الإدارة الأميركية أصيبت بالهلع والارتباك، وتصرفت ليس كحليف أو شريك فحسب، بل كضامن يتحمل مسؤولية خوض المعركة إلى جانب إسرائيل، وضمان نتائجها أيضًا.
لم تكتفِ الإدارة الأميركية بإغداق إسرائيل بالأموال والأسلحة والذخائر، بل استخدمت نفوذها للضغط على حلفائها الغربيين، وتحييد الأنظمة العربية، وتعطيل عمل المنظمات الدولية، وخداع الدول المعنية، وتعبئة الرأي العام وتضليله لصالح إسرائيل من خلال الترويج للأكاذيب وتشويه صورة الفلسطينيين.
بل عمدت الإدارة الأميركية إلى إطالة أمد الحرب لتمكين إسرائيل من تحقيق أهدافها، واستخدمت حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات لمنع مجلس الأمن من إصدار قرار بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية. لقد استعرضت هذه النقاط بسرعة للتذكير فقط، لأن التفاصيل التي شاهدناها على البث المباشر ملأت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي على مدار العام الماضي.
وخلاصة القول إن الدعم غير المسبوق الذي قدمته إدارة بايدن لإسرائيل تجلى بوضوح في اليوم التالي لطوفان الأقصى؛ إذ لم يكتفِ الرئيس بايدن بإعلان صهيونيته ودعمه "الثابت والمطلق" لإسرائيل، وإرسال تعزيزات قتالية وعسكرية، بل تحول إلى ناطق رسمي باسم الأكاذيب الإسرائيلية، مدعيًا أنه رأى بأم عينيه صورًا لأطفال رضع إسرائيليين قطعت المقاومة الفلسطينية رؤوسهم، وهو ما أحرج البيت الأبيض، واضطر متحدث باسمه إلى "توضيح" أو سحب هذا الادعاء الكاذب.
بعد أيام قليلة، وصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى تل أبيب، بصفته الرسمية وكيهودي أيضًا. وبهذه الصفة المزدوجة، استمر في التلاعب بالحقائق والتضليل الذي لا يليق بدبلوماسي محترف، ناهيك عن ممثل لدولة عظمى.
كان لهذا الموقف الأميركي تداعيات واسعة النطاق. فقد منح إسرائيل ضوءًا أخضر وغطاءً شرعيًا وسياسيًا لممارسة جميع جرائمها، والتمادي فيها إلى أقصى حد، دون الاكتراث بالقانون الدولي الإنساني، أو الأمم المتحدة، أو العدالة والمنظمات الدولية، أو حتى بالرئيس الأميركي نفسه.
كما شجع هذا الموقف الدول الغربية الكبرى على غض الطرف عن تجاوزات إسرائيل وجرائمها، وكان حافزًا لتحييد الأنظمة العربية ودولها استجابة للضغوط التي مارستها واشنطن.
لا شك أن مفاجأة السابع من أكتوبر/تشرين الأول أثارت فرحة عارمة في قلوب الفلسطينيين وعموم العرب، حتى أن الكثيرين رفعوا سقف توقعاتهم عاليًا، واعتبروا ذلك إيذانًا بتحقيق حلم العودة إلى الوطن المسلوب.
وكان من أبرز أسباب الفرحة أن ما جرى في ذلك اليوم جسد للمرة الأولى هزيمة للجيش الإسرائيلي على يد المقاومة الفلسطينية. ولكن تدخل الإدارة الأميركية المكثف، ابتداءً من 8 أكتوبر/تشرين الأول، أحدث تحولًا جذريًا في موازين المعركة غير المتكافئة بطبيعتها؛ إذ أصبحت المقاومة الفلسطينية في مواجهة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
ومع مرور الوقت، تلاشت نشوة الفلسطينيين بعد أن ألقت واشنطن بثقلها في المعركة وكأنها تخوض حربًا عالمية ثالثة، بينما وقف العالم العربي، الذي يعتبر فلسطين قضيته الرئيسية، موقف المتفرج الذي لا يحرك ساكنًا، سواء بالدعم أو الإغاثة.
وفقًا لتقرير صادر عن جامعة براون الأميركية، والذي نشرته "تايمز أوف إسرائيل" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أرسلت إدارة بايدن مساعدات عسكرية خلال عام القتال في غزة بقيمة 17.9 مليار دولار، وهو أعلى رقم تم تقديمه لإسرائيل في عام واحد.
كما سلمت الإدارة الأميركية لإسرائيل قنابل خارقة للتحصينات زنة الواحدة منها 2000 رطل (وقد أُلقيت 80 قنبلة منها لاغتيال السيد حسن نصر الله)، وأنققت 4 مليارات دولار لتجديد القبة الحديدية وأنظمة الدفاع الصاروخي. هذه البيانات متاحة حسب التقرير، لأن إدارة بايدن لم تكشف عن حجم المساعدات التي قُدمت بوسائل أخرى إلى إسرائيل.
كان لهذا الدعم العسكري الأميركي الهائل تأثيرات كبيرة في ثلاثة اتجاهات:
- أولًا: شجع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على التشدد والتمادي في موقفه التفاوضي الذي رفض فيه المطالب الأساسية للمقاومة، وفي مقدمتها وقف إطلاق النار الكامل، والانسحاب من جميع أنحاء القطاع، والعودة غير المشروطة للمهجرين إلى ديارهم. ومن ثم منح نتنياهو حرية مطلقة في الحرب، بما في ذلك تصعيد حملة الإبادة والتهجير من القطاع.
- ثانيًا: أقدمت إسرائيل على تحدي النظام الدولي المتمثل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها، وازدراء القانون الدولي. ومن ثم عدم المبالاة بالمحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية. وقد أدى ذلك إلى إصدار قانون يحظر وجود وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في إسرائيل، ورفض استقبال الأمين العام للأمم المتحدة في إسرائيل واعتباره شخصًا غير مرغوب فيه، حتى إن ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة دعا إلى إلغائها وهدم مقرها في واشنطن.
- ثالثًا: أدت هذه الأجواء إلى زيادة قوة وشعبية أحزاب اليمين المتطرف في الساحة الإسرائيلية. إذ لم تعلن هذه الأحزاب فقط عن ضرورة استمرار الحرب واحتلال غزة ونشر المستوطنات وبسط السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، بل ذهب أحد وزراء الحكومة، بتسلئيل سموتريتش، إلى أبعد من ذلك، عندما تحدث عن إقامة دولة يهودية تضم ست دول عربية. وبينما تصور نتنياهو أنه أصبح صاحب الكلمة العليا في المنطقة، رفع صوته عاليًا متحدثًا عن تغيير خرائط منطقة الشرق الأوسط؛ لكي تواكب التغيير الإستراتيجي القادم فيها.
في ظل هذه الظروف، ظهر الرئيس الأميركي الجديد، الذي أجمعت التقارير على أن نتنياهو كان ينتظره بفارغ الصبر ويعلق عليه آمالًا كبيرة لتسلمه منصبه في شهر يناير/كانون الثاني المقبل، حتى أنني قرأت في أحد التعليقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيعتبر نفسه منتصرًا بمجرد وجوده في البيت الأبيض، وهو ما لا أستبعده؛ لأن سجل الرجل في ولايته الأولى يؤيد ذلك.
فهو صاحب فكرة صفقة القرن، الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما اعترف بضم الجولان السوري المحتل لدولة الاحتلال، وله باع طويل في ميلاد اتفاقات أبراهام، فضلًا عن أنه أعرب عن عدم ارتياحه لصغر حجم إسرائيل، وتمنى لها أن تنجح في حل هذه المشكلة في الفضاء العربي الرحب، الذي يُذكر له كرمه مع "الأغيار".
في ضوء هذه الخلفية، يمكننا القول إنه إذا كان الرئيس بايدن قد أعلن عن ميوله الصهيونية ورفع سقف طموحات نتنياهو عاليًا، فإن خلفه ترامب من المتعصبين لهذا المذهب. والفرق بينهما هو أن الأول أعلن عن قناعته علنًا، بينما يحرص الثاني على تأكيد ولائه وغيرته بالأفعال المتلاحقة التي تعبر عن استدامة موقفه.
وقد تجلى ذلك بوضوح شديد في ترشيحاته لفريق عمله بعد توليه السلطة، حيث ضم عناصر من المتطرفين الموالين لإسرائيل. ورد عليه نتنياهو بالمثل عندما عين المستوطن المتطرف يحيئيل ليتر سفيرًا لبلاده في واشنطن، الذي كان عضوًا في جماعة كاهانا التي كانت مصنفة أميركيًا كجماعة إرهابية.
أما أكثر ما يقلقنا في العالم العربي، فهو مزايدته في الانحياز لإسرائيل وعداؤه للفلسطينيين الذي عبر عنه في ولايته الأولى، والذي انضافت إليه أجندة قوى اليمين الصهيونية الحاكمة في الوقت الراهن، التي لا سقف لطموحاتها وتوسعاتها لما تسميه دولة اليهود التوراتية المتجاوزة لأرض فلسطين.
ومن مقتضيات هذه السياسة قهر الفلسطينيين والضغط على الدول العربية أولًا لتوسيع نطاق التطبيع، وثانيًا استخدام "الحلفاء" العرب في ممارسة الضغط لصالح الطرف الإسرائيلي. كما يقتضي ثالثًا قطع الطريق على إيران وتصفية نفوذها أيًا كان شكله في المنطقة.
ومن شأن ذلك أن تصبح اليد العليا لإسرائيل في الشرق الأوسط، بحيث يتسع نطاق التطبيع، مما يفضي في نهاية المطاف إلى الدخول في طور الإخضاع. وهي ليست قراءة للمستقبل، لكنه مجرد احتمال يستدعي القلق والاستنفار، مبني على تصريحات تتناقلها وسائل الإعلام لوزراء ومسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.
ولم يستبعد هذا الاحتمال خبير بارز كالسيد عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر السابق. إذ أدلى بحديث مطول لصحيفة المصري اليوم التي أبرزت على صدر صفحتها الأولى في 14 نوفمبر/تشرين الثاني عناوين جاء فيها: "التوسع الإسرائيلي يهدد السعودية ومصر" و"ما قلته عن مخططات الاحتلال معلومات وليس رأيًا".
إن العمل جار على قدم وساق لتغيير الحقائق على الأرض في غزة ومحيطها؛ لكي يتسلم ترامب منصبه على واقع جديد تجرى المساومة عليه. وإجراءات ضم الضفة وإغراقها بالمستوطنات لم تعد مجرد أمنيات تتحدث عنها الصحف؛ لأن شركات المقاولات الإسرائيلية المدنية تزرع أعمدة الإسمنت في أرجاء القطاع، وشركات أخرى تحاول تسويق وبيع أراضٍ فلسطينية لليهود في كندا وشمال الولايات المتحدة الأميركية.
وينظر نشطاء الأحزاب التوراتية إلى أنفسهم على أنهم يسيرون على طريق إقامة دولة اليهود التي تستعيد ما يسمونه أرض إسرائيل. ولا عجب أنهم يرون أن الظروف مواتية لهم محليًا وغربيًا وإقليميًا، على الأقل من حيث أنهم لا يرون قوة معتبرة في العالم تضغط عليهم لوقف تقدمهم.
وإذا تساءل أحدهم: ما هو الرد على ما يُحاك لنا؟ فربما تطوع أحدهم حسن النية بالرد قائلًا إن القمة العربية الإسلامية أصدرت بيانًا قويًا في ذلك عقب اجتماع الرياض في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، دعت فيه المجتمع الدولي، ضمن أمور أخرى، لأن يقوم بمسؤولياته في هذا الشأن.
وإذا لاحظنا أن حديث سموتريتش، الوزير الإسرائيلي السابق ذكره، تزامن مع القمة، والذي دعا فيه إلى ضم الضفة الغربية لإسرائيل في العام المقبل، فإن تعليقي على ما قيل يتلخص في أن ذلك البيان، الذي احتفى به الإعلام العربي، هو بمثابة شهادة غياب لا تغطي العورة ولا يعول عليها. ومن ثم، فمكانها في الأرشيف بالكاد.
لذلك لم يعد أمامنا سوى أن نتضرع إلى الله، راجين أن يشملنا بواسع رحمته إكرامًا لدماء الشهداء وأشلائهم، وليس بعدله، الذي لا يفوز به إلا من يستحقه.